ماذا نقصد بالله الآب، وماذا تعني الأبوَّة في المسيحية - أي الله الآب - قد يخطر ربما على ذهن أحد أن الأبوة في المسيحية لها علاقة بالأبوة البشرية التي تحمل طابع الأسرة، وكأن لله زوجة تنجب له أولاداً وهو منشغل في العناية بهم، منهمك بمتطلباتهم وحوائجهم المتراكمة، حاشا لله هذا.
إسم الله الآب لم يرد ذكره فقط في العهد الجديد »الإنجيل« فحسب بل نجد العهد القديم مليئاً بالشواهد التي تشير الى أبوة الله فنجد مثلا إشعياء النبي يخاطب الله قائلا: يَا رَبُّ أَنْتَ أَبُونَا. نَحْنُ الطِّينُ وَأَنْتَ جَابِلُنَا، وَكُلُّنَا عَمَلُ يَدَيْكَ (إشعياء 64:. إن المتأمل في هذه الآية والآيات المشابهة لها في العهدالقديم يتضح له أن الله لم يكن معروفاً وقتئذ باعتباره »الآب« بالمعنى المعروف في الإنجيل العهد الجديد، بل كان مقتصراً على المعنى أنه الخالق المعتني بخلقه المدبر العالم وما فيه.
فالأبوة بحسب تعليم الكتاب المقدس، وفي ما أوضحه المسيح له المجد، وأشار إليه في تعليمه الجلي وشدد عليه في أقواله البينة، هي العناية الإلهية بالجنس البشري وحب الله لمخلوقاته بغض النظر عن الجنس واللون والمستوى الإجتماعي الذي يرقى إليه الإنسان، فالعهد الجديد أبان لنا محبة الله الغافرة وحنانه الفائق الوصف الذي يتحدى عقولنا، ومداركنا، وكما عبر عن ذلك الفيلسفوف هيجل بقوله: »لا يستطيع العقل فهم اللامتناهي، ومن أجل إدراكه لا بدّ من الإلهام«. فجاء العهد الجديد يعلن لنا ما لم نستطع فهمه وإدراكه، الله الواحد الأحد المثلث الأقانيم.
إن فكرة التوحيد بينة في الكتاب المقدس، ولا يوجد أدنى شك فيها، فالإعلان في العهد القديم يشدد على هذا السر الإلهي أي »يهوه أحد« لا شريك له (تثنية 6:4) أي بمعنى »لا إله إلا الله«. إن الرب »يهوه« فريد لا أحد نظيره، ولا مساوياً له في شيء، هو متفوق لا يفوقه شيء ولا يماثله أحد »ليس كمثله شيء« كما يعبر عنه القرآن. والعهد القديم ينبر على أن ليس للرب نظير وليس له مثيل ولا شبيه له (خر 8:10 وإش 40:18 - 28) وهو واحد لا شريك له أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لَا إِلَهَ سِوَايَ (إش45:5) ولا يمكننا على الإطلاق أن نقارنه بمخلوق ما أَنَا اللّهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الْإِلَهُ وَلَيْسَ مِثْلِي (إش 46:9). وهذا التوحيد لا يقدم لنا الصورة الواضحة عن الله، بل يبقى الله سراً محجوباً في ذاته، أو كما عبر عنه الصوفي الحلاج عندما قال: »أعطى الله معرفته لعباده ليريهم جهلهم به« فالله في ذاته الواحد الأحد المجهول الأكبر. وفي العهد الجديد نجد الله يعلن عن ذاته ويكشف عن سره المجحوب عن البشر من خلال المسيح الكلمة المتجسد.
الأبوة تشير إلى عنايته تعالى بنا نحن البشر. فالله من فرط محبّته لنا، يقينا من الشر ويحفظنا من العثرات ويسدّد جميع احتياجاتنا. فهو يعتني بنا ولا يريدنا أن نعثر في أية صغيرة أو كبيرة. وهذه الأبوة لا تشير على الإطلاق إلى أي علاقة تناسلية، بل إنّها علاقة روحية محضة، وقد نبّر المسيح عنها مراراً وتكراراً. كما أنّ المسيح هو الذي أعلن لنا هذه الأبوة. ففي الآية التالية إشارة واضحة لأبوة الله لنا في قوله: »فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ« (الانجيل حسب البشير متى 7:11).
ففي هذه الأبوة يكشف الله ويعلن لنا سراً من أسراره العجيبة، وهو أنّه ليس فقط الاله العظيم القوي الجبار القهار الذي تصطك وترجف الركب أمامه ويستولي الذعر على النفوس عند المثول في حضرته، بل إنّه آب حنون رحيم بعباده رؤوف بأولاده يسعى لصلاحهم لا لهلاكهم. فأبوة الله تسمو فوق كل أبوة أرضية ولا يمكننا أن نقيسها بالمفهوم الأرضي على الإطلاق.
كأولاد له نقدر أن نقترب منه كل حين بالصلاة والدعاء وطلب التوبة والغفران وبروح الشكر والحمد والتسبيح على كل ما يقدّمه لنا، قائلين له بكل تأكيد: »أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ« (الانجيل حسب البشير متى 6:9).
والله المحب هذا لم ندركه من ذواتنا ولا بذكاء عقولنا المحدودة، بل إنّه من فرط محبته كشف لنا عن شخصه المحجوب عن عقولنا، مثلما عبّر العلامة المسيحي »ترتوليانوس« (ولد بقرطاجة تونس وعاش ما بين سنة 155 م إلى 220 م) عن قصر عقولنا لإدراك الله بقوله: »كما أنّ وضع مياه المحيط بأكمله في كأس هو أمر مستحيل، فهكذا هو الحال معنا بالنسبة لإدراكنا لله غير المحدود، إذ لا يمكننا أن نحدّه بعقولنا الصغيرة«. أو كما عبّر عن ذلك أحد المفكرين المسلمين بقوله: »كيف للعقل المحدود أن يدرك اللامحدود؟«. حقاً إنّ العقل البشري محدود ولا يمكنه إدراك الله غير المحدود. ولسبب قِصَر مداركنا، كشف الله لنا عن شخصه بواسطة الكلمة المتجسّد »يسوع المسيح«. فالله وحده يرفع بعض الحجب عن أعيننا فترى الناس بريق لمعان نور ذاته وصفاته تعالى بعين القلب، فنور القلب كما عبر عن ذلك أحدهم بقوله: »إن نور القلب أضوأ وأشرق من شمس النهار«. فهو الذي يضع قبسات من نوره في قلب العابد المؤمن به.
وهذا لا يعني أنّ المسيحية تدّعي معرفة جوهر الله. فالجوهر لا يدركه العرض، ولا يمكن لأي إنسان معرفة جوهر الله، لذا فالاعلان الذي تشير إليه المسيحية هو إعلان الله للبشر. إذ هو الذي وضع قبسات من نوره الوهاج في قلوب مطيعيه والسائلين عن شخصه لفعل مرضاته في حياتهم. وهذا من كمال الله في أن يعلن عن ذاته لعباده وأثقيائه.
إنّ أبوة الله لا يمكن سبر غورها والوصول إلى مكنوناتها دون معرفة الابن الذي هو أعلن وخبّر عن هذا السر، وذلك لسبب قصر إدراكنا لكُنَه الله. لذا أطلعنا هو بذاته بواسطة المسيح يسوع على سرّه الذي لا تدركه العقول. فالله تجلّى لنا في المحبة، وأظهر هذه المحبة في المسيح يسوع. »لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:16).
فالله من دفق محبّته لنا، لم يدعنا نتخبط في لجج جهلنا أو نسبح في ضباب أخيلة عقولنا، بل أعلن عن ذاته الصمدانية في الثالوث المقدّس: الآب والابن والروح القدس.
والأبوة في المسيحية، هي ليست كما وصفها أبو كنيسة الالحاد المعاصر »لودفيك فويرباخ« (Ludwig Feuerbach). وادعى بأن الله هو مجرد إسقاط فكر الانسان (Ein Projection des Menschen) أي أنّ الانسان بعدما راح يبحث ويفتش عن اللامتناهي اللامحدود، وبعد أن فشل في تحقيق اشتياقه للوصول إلى هذا اللامتناهي أسقط هذه الفكرة على ذاته. فالله هو مجرد شوق وتمنيات الإنسان. وقد أوضح فكرته هذه بقلبه الآية الكتابية إلى التالي: »إنّ الإنسان خلق الله على صورته«. هذا ما وصل إليه العقل البشري. فالإنسان مهما حاول بفكره وجهده الخاص معرفة الأزلي دون طلب العون الإلهي سيسقط ولا محالة في جهل وغباء أكثر مما وصل إليه »فويرباخ«.
وها هو ملحد آخر لم تشبعه فكرة »فويرباخ«. فأطلق العنان لفكره وراح يحلق في فضاء الكفر والإلحاد هو »سيغموند فرويد (Sigmund Freud) الذي قال: إنّ الله هو مجرد فكرة عن أب متعال متسام بعيد. وهذا الاب، حسب رأي »فرويد«، هو ناتج عن ضعف الإنسان وعجزه. فالإنسان منذ طفولته بحاجة لأب يحميه، وعندما يبلغ هذا الإنسان الكبر يجد نفسه دائماً ضعيفاً عاجزاً لا ناصر له. فيتوهم ويخلق لنفسه صورة عن أب يتّصف بالقوة والجبروت، متعال متسام عن الكل. هذا هو الله الذي أنتجه »فرويد«.
أما الفيلسوف »فردريك نيتشه« (Friedrich Nietzsche) الذي جُنّ في آخر حياته، فلم يبتعد كثيراً عن سابقيه حيث قال: »بما أنّ الإنسان اعتبر نفسه شريراً ابتدع فكرة الخير، ولأنّه كذاب خلق فكرة الصدق، ولأنّه بشع كوّن فكرة الجمال«. فاعتبر »نيتشه« أنّ كل هذه الافكار هي مجرد تمنيات وخيالات الإنسان. والله هو مجرد خيال الإنسان لا حقيقة له خارجه.
والحق يقال: لو كان إلهنا مثل ما تخيله الفلاسفة، لكان فعلاً إلهاً باطلاً. ولو حاولنا إحصاء ودرس الآلهة المخزونة في عقول البشر، لهالتنا كثرة تنوعها وتضاربها بعضها مع بعض. كم هم الذين يتخيلون الله وكأنّه شيخ جليل وقور، أكل الدهر عليه وشرب، علمه محصور في الماضي ويعيش على هذا الماضي وحده؟ أو كأنّه مدير إدارة من الصعب الاتصال به؟ أو كالأب الذي يترنح تحت أعباء الحياة ومتطلباتها، مشغول بأبنائه في سدّ جميع احتياجاتهم ومطالبهم المتعددة؟
قد أصاب الفيلسوف »سبنسر« بقوله: »يستحيل على العقل البشري أن يعلم من أمر الله شيئاً«. إنّ الله أسمى من كل تصوّر بشري. ولولا بُعد الإنسان عن الله بقلبه وفكره لما كان على الله أن يعلن ذاته للبشرية. فحضور الله في الجسد لم يكن ليعطينا تعريفاً من يكون الله. بل أنّه أرادنا أن نعيش فيه وهو فينا »لأنّ الَلّهَ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي اللّهِ وَاللّهُ فِيهِ« (1 يوحنا 4:16). وأن نكون دوماً في حضرته لأننا تاج خليقته. فأرادنا أن نكون أولاده بالروح »اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الْآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلَادَ اللّهِ« (1 يوحنا 3:1). إذن فالإنسان في نظر الله هو أسمى مخلوقاته يحظى باهتمام كبير من لدنه.
إسم الله الآب لم يرد ذكره فقط في العهد الجديد »الإنجيل« فحسب بل نجد العهد القديم مليئاً بالشواهد التي تشير الى أبوة الله فنجد مثلا إشعياء النبي يخاطب الله قائلا: يَا رَبُّ أَنْتَ أَبُونَا. نَحْنُ الطِّينُ وَأَنْتَ جَابِلُنَا، وَكُلُّنَا عَمَلُ يَدَيْكَ (إشعياء 64:. إن المتأمل في هذه الآية والآيات المشابهة لها في العهدالقديم يتضح له أن الله لم يكن معروفاً وقتئذ باعتباره »الآب« بالمعنى المعروف في الإنجيل العهد الجديد، بل كان مقتصراً على المعنى أنه الخالق المعتني بخلقه المدبر العالم وما فيه.
فالأبوة بحسب تعليم الكتاب المقدس، وفي ما أوضحه المسيح له المجد، وأشار إليه في تعليمه الجلي وشدد عليه في أقواله البينة، هي العناية الإلهية بالجنس البشري وحب الله لمخلوقاته بغض النظر عن الجنس واللون والمستوى الإجتماعي الذي يرقى إليه الإنسان، فالعهد الجديد أبان لنا محبة الله الغافرة وحنانه الفائق الوصف الذي يتحدى عقولنا، ومداركنا، وكما عبر عن ذلك الفيلسفوف هيجل بقوله: »لا يستطيع العقل فهم اللامتناهي، ومن أجل إدراكه لا بدّ من الإلهام«. فجاء العهد الجديد يعلن لنا ما لم نستطع فهمه وإدراكه، الله الواحد الأحد المثلث الأقانيم.
إن فكرة التوحيد بينة في الكتاب المقدس، ولا يوجد أدنى شك فيها، فالإعلان في العهد القديم يشدد على هذا السر الإلهي أي »يهوه أحد« لا شريك له (تثنية 6:4) أي بمعنى »لا إله إلا الله«. إن الرب »يهوه« فريد لا أحد نظيره، ولا مساوياً له في شيء، هو متفوق لا يفوقه شيء ولا يماثله أحد »ليس كمثله شيء« كما يعبر عنه القرآن. والعهد القديم ينبر على أن ليس للرب نظير وليس له مثيل ولا شبيه له (خر 8:10 وإش 40:18 - 28) وهو واحد لا شريك له أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لَا إِلَهَ سِوَايَ (إش45:5) ولا يمكننا على الإطلاق أن نقارنه بمخلوق ما أَنَا اللّهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الْإِلَهُ وَلَيْسَ مِثْلِي (إش 46:9). وهذا التوحيد لا يقدم لنا الصورة الواضحة عن الله، بل يبقى الله سراً محجوباً في ذاته، أو كما عبر عنه الصوفي الحلاج عندما قال: »أعطى الله معرفته لعباده ليريهم جهلهم به« فالله في ذاته الواحد الأحد المجهول الأكبر. وفي العهد الجديد نجد الله يعلن عن ذاته ويكشف عن سره المجحوب عن البشر من خلال المسيح الكلمة المتجسد.
الأبوة تشير إلى عنايته تعالى بنا نحن البشر. فالله من فرط محبّته لنا، يقينا من الشر ويحفظنا من العثرات ويسدّد جميع احتياجاتنا. فهو يعتني بنا ولا يريدنا أن نعثر في أية صغيرة أو كبيرة. وهذه الأبوة لا تشير على الإطلاق إلى أي علاقة تناسلية، بل إنّها علاقة روحية محضة، وقد نبّر المسيح عنها مراراً وتكراراً. كما أنّ المسيح هو الذي أعلن لنا هذه الأبوة. ففي الآية التالية إشارة واضحة لأبوة الله لنا في قوله: »فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ« (الانجيل حسب البشير متى 7:11).
ففي هذه الأبوة يكشف الله ويعلن لنا سراً من أسراره العجيبة، وهو أنّه ليس فقط الاله العظيم القوي الجبار القهار الذي تصطك وترجف الركب أمامه ويستولي الذعر على النفوس عند المثول في حضرته، بل إنّه آب حنون رحيم بعباده رؤوف بأولاده يسعى لصلاحهم لا لهلاكهم. فأبوة الله تسمو فوق كل أبوة أرضية ولا يمكننا أن نقيسها بالمفهوم الأرضي على الإطلاق.
كأولاد له نقدر أن نقترب منه كل حين بالصلاة والدعاء وطلب التوبة والغفران وبروح الشكر والحمد والتسبيح على كل ما يقدّمه لنا، قائلين له بكل تأكيد: »أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ« (الانجيل حسب البشير متى 6:9).
والله المحب هذا لم ندركه من ذواتنا ولا بذكاء عقولنا المحدودة، بل إنّه من فرط محبته كشف لنا عن شخصه المحجوب عن عقولنا، مثلما عبّر العلامة المسيحي »ترتوليانوس« (ولد بقرطاجة تونس وعاش ما بين سنة 155 م إلى 220 م) عن قصر عقولنا لإدراك الله بقوله: »كما أنّ وضع مياه المحيط بأكمله في كأس هو أمر مستحيل، فهكذا هو الحال معنا بالنسبة لإدراكنا لله غير المحدود، إذ لا يمكننا أن نحدّه بعقولنا الصغيرة«. أو كما عبّر عن ذلك أحد المفكرين المسلمين بقوله: »كيف للعقل المحدود أن يدرك اللامحدود؟«. حقاً إنّ العقل البشري محدود ولا يمكنه إدراك الله غير المحدود. ولسبب قِصَر مداركنا، كشف الله لنا عن شخصه بواسطة الكلمة المتجسّد »يسوع المسيح«. فالله وحده يرفع بعض الحجب عن أعيننا فترى الناس بريق لمعان نور ذاته وصفاته تعالى بعين القلب، فنور القلب كما عبر عن ذلك أحدهم بقوله: »إن نور القلب أضوأ وأشرق من شمس النهار«. فهو الذي يضع قبسات من نوره في قلب العابد المؤمن به.
وهذا لا يعني أنّ المسيحية تدّعي معرفة جوهر الله. فالجوهر لا يدركه العرض، ولا يمكن لأي إنسان معرفة جوهر الله، لذا فالاعلان الذي تشير إليه المسيحية هو إعلان الله للبشر. إذ هو الذي وضع قبسات من نوره الوهاج في قلوب مطيعيه والسائلين عن شخصه لفعل مرضاته في حياتهم. وهذا من كمال الله في أن يعلن عن ذاته لعباده وأثقيائه.
إنّ أبوة الله لا يمكن سبر غورها والوصول إلى مكنوناتها دون معرفة الابن الذي هو أعلن وخبّر عن هذا السر، وذلك لسبب قصر إدراكنا لكُنَه الله. لذا أطلعنا هو بذاته بواسطة المسيح يسوع على سرّه الذي لا تدركه العقول. فالله تجلّى لنا في المحبة، وأظهر هذه المحبة في المسيح يسوع. »لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:16).
فالله من دفق محبّته لنا، لم يدعنا نتخبط في لجج جهلنا أو نسبح في ضباب أخيلة عقولنا، بل أعلن عن ذاته الصمدانية في الثالوث المقدّس: الآب والابن والروح القدس.
والأبوة في المسيحية، هي ليست كما وصفها أبو كنيسة الالحاد المعاصر »لودفيك فويرباخ« (Ludwig Feuerbach). وادعى بأن الله هو مجرد إسقاط فكر الانسان (Ein Projection des Menschen) أي أنّ الانسان بعدما راح يبحث ويفتش عن اللامتناهي اللامحدود، وبعد أن فشل في تحقيق اشتياقه للوصول إلى هذا اللامتناهي أسقط هذه الفكرة على ذاته. فالله هو مجرد شوق وتمنيات الإنسان. وقد أوضح فكرته هذه بقلبه الآية الكتابية إلى التالي: »إنّ الإنسان خلق الله على صورته«. هذا ما وصل إليه العقل البشري. فالإنسان مهما حاول بفكره وجهده الخاص معرفة الأزلي دون طلب العون الإلهي سيسقط ولا محالة في جهل وغباء أكثر مما وصل إليه »فويرباخ«.
وها هو ملحد آخر لم تشبعه فكرة »فويرباخ«. فأطلق العنان لفكره وراح يحلق في فضاء الكفر والإلحاد هو »سيغموند فرويد (Sigmund Freud) الذي قال: إنّ الله هو مجرد فكرة عن أب متعال متسام بعيد. وهذا الاب، حسب رأي »فرويد«، هو ناتج عن ضعف الإنسان وعجزه. فالإنسان منذ طفولته بحاجة لأب يحميه، وعندما يبلغ هذا الإنسان الكبر يجد نفسه دائماً ضعيفاً عاجزاً لا ناصر له. فيتوهم ويخلق لنفسه صورة عن أب يتّصف بالقوة والجبروت، متعال متسام عن الكل. هذا هو الله الذي أنتجه »فرويد«.
أما الفيلسوف »فردريك نيتشه« (Friedrich Nietzsche) الذي جُنّ في آخر حياته، فلم يبتعد كثيراً عن سابقيه حيث قال: »بما أنّ الإنسان اعتبر نفسه شريراً ابتدع فكرة الخير، ولأنّه كذاب خلق فكرة الصدق، ولأنّه بشع كوّن فكرة الجمال«. فاعتبر »نيتشه« أنّ كل هذه الافكار هي مجرد تمنيات وخيالات الإنسان. والله هو مجرد خيال الإنسان لا حقيقة له خارجه.
والحق يقال: لو كان إلهنا مثل ما تخيله الفلاسفة، لكان فعلاً إلهاً باطلاً. ولو حاولنا إحصاء ودرس الآلهة المخزونة في عقول البشر، لهالتنا كثرة تنوعها وتضاربها بعضها مع بعض. كم هم الذين يتخيلون الله وكأنّه شيخ جليل وقور، أكل الدهر عليه وشرب، علمه محصور في الماضي ويعيش على هذا الماضي وحده؟ أو كأنّه مدير إدارة من الصعب الاتصال به؟ أو كالأب الذي يترنح تحت أعباء الحياة ومتطلباتها، مشغول بأبنائه في سدّ جميع احتياجاتهم ومطالبهم المتعددة؟
قد أصاب الفيلسوف »سبنسر« بقوله: »يستحيل على العقل البشري أن يعلم من أمر الله شيئاً«. إنّ الله أسمى من كل تصوّر بشري. ولولا بُعد الإنسان عن الله بقلبه وفكره لما كان على الله أن يعلن ذاته للبشرية. فحضور الله في الجسد لم يكن ليعطينا تعريفاً من يكون الله. بل أنّه أرادنا أن نعيش فيه وهو فينا »لأنّ الَلّهَ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي اللّهِ وَاللّهُ فِيهِ« (1 يوحنا 4:16). وأن نكون دوماً في حضرته لأننا تاج خليقته. فأرادنا أن نكون أولاده بالروح »اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الْآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلَادَ اللّهِ« (1 يوحنا 3:1). إذن فالإنسان في نظر الله هو أسمى مخلوقاته يحظى باهتمام كبير من لدنه.